يعد الحكم الذاتي من أبرز المفاهيم التي ظهرت في السياقات السياسية المعقدة، كحل وسط بين مطالب الاستقلال ومقتضيات السيادة الوطنية. وفي الحالة المغربية، تبلور هذا المفهوم بوضوح سنة 2007، عندما قدم المغرب مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي للنزاع حول الصحراء. وقد لقيت هذه المبادرة تأييدا دوليا. إلا أن التساؤلات لازالت تطرح حول ما إذا كان هذا التصور قد تم تنزيله فعليا على أرض الواقع. فهل نجح المغرب في الانتقال من مرحلة التصور إلى مرحلة التنزيل؟ وما هي التحديات والإكراهات التي تحول دون ذلك؟
إن الحكم الذاتي هو شكل من أشكال تدبير الشأن المحلي، تمنح فيه الدولة صلاحيات واسعة لإقليم معين، مع الحفاظ على السيادة الوطنية. ويعتبر بديلا سلميا و وسيلة لتحقيق التنمية والعدالة المجالية.
وقد قدم المغرب تصورا واضحا للحكم الذاتي في الصحراء سنة 2007، شمل كالآتي:
– إنشاء مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية محلية.
– تمكين سكان الصحراء من إدارة شؤونهم بأنفسهم.
– احتفاظ الدولة المغربية بالاختصاصات السيادية (الدفاع، الخارجية، العملة…).
– ضمان حقوق الإنسان والحريات العامة ضمن إطار ديمقراطي.
– عرض الخطة على الاستفتاء المحلي تحت إشراف الأمم المتحدة.
وقد حظي هذا التصور باعتراف أممي واسع، باعتباره بديلا عن الاستفتاء الذي لم يتحقق بسبب الخلافات التقنية والسياسية.
تنزيل الحكم الذاتي: بين الواقع والممارسة
رغم أن الحكم الذاتي لم يفعل رسميا كمشروع قانون خاص، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى مؤشرات أولية تجسد في بعض جوانبها مضامين الحكم الذاتي، من أبرزها:
– الجهوية المتقدمة: حيث ان اعتماد دستور 2011 لمفهوم الجهوية الموسعة عكس رسالة مباشرة للخطو نحو الحكم الذاتي، خصوصا في جهتي العيون-الساقية الحمراء والداخلة-وادي الذهب.
– التمثيلية السياسية و المتمثلة في مشاركة أبناء الصحراء في الانتخابات والسماح لهم بالمشاركة السياسية في البرلمان والحكومة.
– التنمية الاقتصادية حيث تم إطلاق مشاريع استراتيجية ضخمة كميناء الداخلة الأطلسي، وتوسيع شبكات الطرق، و مشاريع الطاقة.
– الاستثمارات الاجتماعية التي تساهم في تحسن مؤشرات التعليم، الصحة، الإسكان، والبنية التحتية.
إلا أن هذا التنزيل يصبح محدودا أو مفرغا من مضمونه حيث لا يتم سن قوانين مؤسساتية تفصل بوضوح بين سلطات الدولة المركزية وسلطات الحكم الذاتي في الصحراء وهو ما يعتبر غياب إطار قانوني خاص بالحكم الذاتي، من جهة أولى. كما أن عدم التفاوض بشأن التفاصيل مع أطراف الملف يجعل التنزيل مؤجلا الى حين التوصل إلى تسوية سياسية نهائية، من جهة ثانية. كما أن غياب استفتاء شعبي حول هذه المبادرة قد يضعف الشرعية من جهة ثالثة.
التنزيل بين التحديات والمعيقات
إن التحديات التي تعيق التنزيل الكامل لهذا المشروع يكمن أبرزها في الجمود السياسي لموقف جبهة البوليساريو المتشبث بخيار الاستقلال. كما أن دور الجزائر كطرف غير معلن يعيق تطور المفاوضات السياسية.
أما دوليا، بالرغم من تزايد الدول المؤيدة للمبادرة إلا أنه لازال هناك تباين في مواقف الدول الكبرى لاسيما مع ما تشهده الساحة الدولية من تقلبات و توترات إقليمية وهو ما يجعل المشروع يسير ببطء أو بحذر نوعا ما.
أي آفاق بين التصور والتنزيل
رغم غياب التنزيل الرسمي للحكم الذاتي كإطار قانوني متكامل، فإن المغرب استطاع أن يفعل بشكل غير مباشر جوانب متعددة من المبادرة، خصوصا على المستويات الاقتصادية والتنموية والمؤسساتية. غير أن التنزيل الفعلي يظل مرهونا بثلاث شروط أساسية:
– يتعلق الشرط الأول بتوافق سياسي دولي أو أممي حول المبادرة كأساس للحل.
– يتجلى الشرط الثاني في قبول جميع الأطراف بالجلوس إلى طاولة المفاوضات على هذا الأساس.
– يرتبط الشرط الثالث بتدشين إطار قانوني مؤسساتي داخل المغرب بسرعة، يميز بوضوح الحكم الذاتي عن الجهوية العادية.
مبدأ السيادة ورهان الوحدة
إن تخوف المغرب من إعطاء إشارات قد تفهم بشكل أو بآخر على أنها تنازل عن السيادة، قد يجعله يتريث في تنزيل النموذج الذاتي وكذا حذرا.
وعليه، وفي ظل هذه الظرفية الحساسة حيث الواقع الميداني والدبلوماسي يرجح كفة المغرب، ويؤكد أن مستقبل الصحراء يتجه نحو تثبيت الحكم الذاتي كحل دائم، يحفظ وحدة المغرب، ويحقق كرامة وحقوق سكان المنطقة.
يجب استغلال هذه الكفة دوليا و الزمن السياسي داخليا من أجل استكمال هذا النموذج وتفعيله كنظام سياسي وإداري متكامل، كان قد تعثر تارة لأسباب سياسية وتارة لأسباب دبلوماسية. لأننا لازالنا في مرحلة انتقالية بين التصور والتنزيل.