بقلم ذ.معاد اهليل
منذ نشأنا ونحن نسمع الكل يحذر من السياسة، فإذا ناقشت موضوعا سمعت الآخر يقول: “بارك عليا من السياسة”، وإذا أراد أحدهم قضاء مصلحة عند آخر قيل له “سير معاه غير بالسياسة”، وكأن السياسة عمل خسيس، وكل من يخوض في شأنها فهو لئيم مخادع. حتى صار المجتمع برمتم ينأى بنفسه عن السياسة، كي لا يحمل على عاتقه وصمة عار اسم سياسي. لكن من المسؤول؟
أظن أن الدعوة إلى الابتعاد عن السياسة، تشبه إلى حد ما، دعوة بعض الأعيان قديما لأبناء الشعب لعدم مواصلة دراستهم؛ لأنه لا طائل من ورائها، في حين كانوا يرسلون أبناءهم في البعثات إلى الخارج لمواصلة دراساتهم، مع العلم أن البعثات كانت مفتوحة لكل أبناء الشعب؛ لكن لم يكن يحظى بها إلا أبناؤهم؛ وأنتم تعرفون الأسماء. ومحل الشاهد في كلامي، أن الذي كان يحذر من الخوض في السياسة كان يرسل أبناءه لتعلم السياسة في الخارج، ليجدو في انتظارهم مناصب سياسية سامية. وهم بذلك كانوا في حاجة ماسة إلى دمى سياسية يحركونها كيفما شاءوا. ففتحوا البرلمان أمام فئات لا تتوفر على شواهد دراسية، ووضعوا على رؤوس الجماعات أميين، كان منهم من لا يفقه القراءة أو الكتابة، ولازال بعضهم الآن في البرلمان يحتاج إلى من يكتب له كلمة سيلقيها في البرلمان.
وكلنا تربى وهو يحمل في تمثله صورة بعبع اسمه السياسة، لأنهم أرادوا لنا ذلك، لأن انخراطنا في السياسة سيعكر صفوهم، سيجلي الحقائق الخفية التي يوارونها، وهي أنهم يحمون ثرواتهم، ويوسعون نفوذهم، ويحصنون أنفسهم بحصانات المقاعد البرلمانية. وكانت منافستهم انتحارا؛ لأنهم يجندون كل عدوانياتهم وكل أسلحتهم لدحض خصومهم، فكنا نسمع القتل، والاعتداءات، والحوادث المميتة. فكيف لا تكون السياسة بعبعا، يجب على المواطنين المغاربة الالتفات يمينا وشمالا قبل التفوه بكلمة في الموضوع. لكن على حد قول أبي الطيب المتنبي:
وما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشته السفن
فبينما كانت سفن القوم تسير سلاما رخاء عصف بها مد الربيع العربي، الذي أفقدها التحكم في دفة القيادة، وجعلها تفقد الخريطة السحرية التي كانت تهتدي بواسطتها سفن القوم. فكان ميلاد عهد جديد، بدستور جديد، ونظم ديمقراطية جديدة. وتحرر الحقل السياسي من قبضة شرذمة طالما اعتبرت نفسها فوق القانون. فهل سنربي أبناءنا على الخوف من بعبع اسمه السياسة، أم سنقدم لهم نموذجا سياسيا يهتدون به؟ هل سنراكم من التجارب السياسية تراثا تستنير به الأجيال المقبلة، أم سنكرس فيهم روح الخنوع والخضوع والذل والهوان؟
وختاما أقول: هناك جيل سيكرس حياته لترويض البعبع.
اكتشاف المزيد من DemocPress ديموك بريس
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.