د. حسن مروان / باحث في القانون العام والعلوم السياسية – عضو المكتب السياسي لحزب الديمقراطيين الجدد
شهد المغرب تطورات ملحوظة طالت مؤسسات المجتمع المدني ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين؛ فبعد حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956، كانت منظمات المجتمع المدني تتحرك في هامش محدود وضيق وذلك للعديد من الأساب السياسية والقيود القانونية التي ميزت تلك الفترة بالخصوص والتي ساهمت بشكل كبير في تقييد عمل هذه المنظمات ، ولم يتغير الوضع إلا في مطلع التسعينيات وسمح بهامش من الحرية لصالح المجتمع المدني. في المحصلة، ارتفع عدد منظمات المجتمع المدني وانتشرت بشكل واسع خصوصا بعد إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، حيث تجاوز عددها 160 ألف منظمة وجمعية مدنية سنة 2019 وفقا لآخر إحصائيات الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني.
وبذلك أصبح دور منظمات وجمعيات المجتمع المدني وتأثيرها في مختلف القضايا والتحديات التي يواجهها المجتمع المغربي موضوعا شديد الأهمية، نتيجة للتغييرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعرفها بلادنا والحاجة الملحة أكثر لتضافر مختلف الجهود وتوحيد القوى لتجاوز مختلف الأزمات والتحديات الداخلية او العالمية التي تواجهها بلادنا، وعلى رأسها أزمة جائحة فيروس كرونا المستجد، فمند ظهور وباء الفيروس في مدينة ووهان الصينية للمرة الأولى في ديسمبر 2019، إلى 11 مارس 2020 تاريخ إعلان “منظمة الصحة العالمية” أن تفشي مرض “كوفيد-19” المستجد قد بلغ مستوى الجائحة، أو الوباء العالمي، ودعوة المنظمة للحكومات إلى اتخاذ خطوات عاجلة وأكثر صرامة لوقف انتشار الفيروس، أصبح من الملزم انخراط مختلف مكونات الشعب المغربي لتجاوز هذه الأزمة والمحنة العالمية وتفادي سيناريوهات خطيرة ، وذلك باستباق أثر هذا الوباء والحد من تداعياته على صحة المواطن وعلى المجتمع ككل عبر إشراك مختلف الأطراف والمتدخلين وخاصة منظمات وجمعيات المجتمع المدني التي تعتبر عصب وشرايين المجتمع الحديث.
في هذا السياق انخرطت بلادنا في هذا المسار بإعلانها اتخاذ مجموعة من الإجراءات و التدابير الإستباقية لمواجهة تفشي الوباء، وكان بدايتها المبادرة و التوجيهات الملكية الإستباقية والتي همت المجال الصحي والإجتماعي والإقتصادي والمالي، و قد ترجمت الحكومة هذه التوجيهات إلى العديد من الإجراءات والتدابير بلغت حسب تصريح السيد رئيس الحكومة في الجلسة العمومية الشهرية بمجلس النواب ليوم الاثنين 13 ابريل 2020 إلى 350 إجراء وتدبير لمعالجة أثار هاته الجائحة .
هاته المبادرة الملكية والتدابير والإجراءات الحكومية الإستباقية عرفت إستجابة وقبول كبير وتنويه وإشادة من طرف مختلف القوى السياسية والنقابية والمدنية ببلادنا والتي أعلنت كذلك من جهتها عن إنخراطها الكامل في مسلسل التعبئة والتوعية والتحسيس والتضامن للحد من آثار هاته الجائحة ، مما جعل هذه الظرفية تتحول لمناسبة وفرصة للإجماع الوطني أولا وفرصة لتجسيد روح التضامن وقيم التكافل والتآزر التي جبل عليها المغاربة ثانيا، وفرصة لإستفادة الدولة من هذه “المحنة الوبائية” لمراجعة أولوياتها للقطع مع الخيار النيوليبرالي، وتحكم المؤسسات المالية الدولية، والابتعاد عن منطق الحفاظ على منطق التوازنات الماكرواقتصادية ، مع دعوة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي لاستحضار تداعيات هذه المحنة الوبائية في صياغة تقريرها النهائي، و ضرورة تكثيف جهود كل مكونات الشعب المغربي لمواجهة هذه الجائحة .
وهذا ما دفع بتنظيمات وجمعيات المجتمع المدني ببلادنا بأن تقوم بمئات المبادرات لدعم الجهود الحكومية في هذا الصدد والتي يمكن تصنيفها في أربع مجالات أو أدوار أساسية على الشكل التالي :
1 ـ دور تحسيسي توعوي : إنطلاقا من أن أحد الأسباب الرئيسية لتفشي فيروس كرونا في مختلف بلدان العالم هو عدم الوعي الكافي بخطورة الفيروس وكيفية التعامل معه والوقاية منه لدى المواطنين مما جعلهم يستمرون في الخروج إلى الشارع بدون اعتماد إجراءات التباعد الاجتماعي والإلتزام بقواعد النظافة والحجر الصحي … وهذا ما لاحظناه في منحنى الإصابات الذي استمر في الارتفاع بشكل متزايد ويومي مما جعله يخرج عن السيطرة في العديد من البلدان وخاصة إيطاليا وإسبانيا إلى أن تدخلت هذه الدول ولو بشكل متأخر واتخذت مجموعة من الإجراءات والتدابير الرادعة والقانونية كالحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية والغرامات.. ولعل من الأسباب الرئيسية لهذا الوضع هو عدم وعي المواطنين بخطورة الوباء وبكيفية الوقاية منه، وهنا تجسد دور جمعيات ومنظمات المجتمع المدني المؤطرة والمنظمة في تحسيس وتوعية المواطينين عبر آلية التنسيق والشراكة مع الجهات الوصية من خلال حضورها في الأماكن العامة و توظيفها لوسائل التواصل الإجتماعي والإعلام العمومي ومشاركتها للسلطات المحلية في حملات تواصلية تحسيسية تجوب الأحياء السكنية.
- التحسيس بضرورة الإلتزام بمسافة الأمان في المرافق العمومية والخاصة وتجنب الاكتظاظ : هذا عبر توزيع المتطوعين أمام هذه المرافق للعمل على تطبيق التوصيات المتبعة .
- توزيع المتطوعين للإعانات بتنسيق مع السلطات المحلية المختصة .
- تمكن الفاعلين الجمعويين لكل منطقة من خصوصيات الوباء و الدراية بالمستجدات وذلك للتصدي للإشاعات على الصعيد المحلي وهو ما يساهم في تقليل حالة الهلع اللامبرر لدى المواطنين: و تحسيس المواطن بأن الدولة تتابعه عن كثب وتحكم سيطرتها على الوضع وهو ما يُعزز الإستقرار الإجتماعي كركيزة من ركائز إدارة الأزمات..
- إدارة المعلومات بشكل دقيق و جعل منظومة التواصل أثناء الأزمات منظومة تخاطب المواطن بشكل مُباشر عبر المتطوعين المحليين وإنطلاقا من السياق والمجال المحلي، إذ أن كل أزمة هي أزمة معلومات وتواصل بدرجة كبيرة .
وكمثال على ذلك ورد في موقع هسبريس قيام أعضاء جمعية طنجة للتنمية الاجتماعية والمحافظة على البيئة بحملة تحسيسة و توزيع الكمامات الطبية والقفازات على المواطنين في الشارع للحد من انتشار الفيروس، كما تعمل الجمعية على دعوة الأهالي على إبقاء أطفالهم داخل المنازل ومتابعة الدراسة عن بعد.
2 ـ دور ردعي رقابي ميداني : منظمات وجمعيات المجتمع المدني لها دور هام في التدخل الميداني في الأزمات وذلك من خلال تدعيم مؤسسات الدولة بالرصيد البشري الكافي والمؤهل للتدخل في ميادين مختلفة :
- تعزيز خدمات الإسعاف و الحماية المدنية بمتطوعي الهلال الأحمر المغربي والذي يُعتبر الجيش الثاني للحماية المدنية كما أن متطوعي الهلال الأحمر لهم من التدريب ما يكفي للتصرف في الأزمات والإغاثة والإسعاف و غيرها ما يسمح للحماية المدنية بتكريس وتركيز طاقة أكبر للإستجابة لحالات الإصابة بالكورونا.
- توفير الرصيد البشري الكافي من المتطوعين في مراكز النداء الهاتفية و الأرقام الخضراء الخاصة بهده الظرفية الاستثنائية.
كما تعمل منظمات المجتمع المدني في السياق المحلي والوطني على المتابعة اليومية للوضع الإجتماعي في تفاصيله من خلال متطوعين وفاعلين محليين بحيث يسجلون في كل منطقة الإخلالات والتجاوزات ويعملون على التبليغ عنها عبر وسائل عديدة : جمعيات حماية المستلك، مراسلة وإخبار السلطات المحلية المعنية ، صفحات على الفايسبوك واليوتوب تُنشأ لهذا الغرض، بحيث يجعل الوعي الفوري بالتجاوزات والإخلالات من الحلول أسرع وأسهل و أنجع.
كما ينبغي التطرق كذلك في الدور الردعي و الرقابي لأحد أهم المهام التي تقوم بها جمعيات المجتمع المدني في مثل هذه المناسبات والمتمثلة في البعد الحقوقية للتعاطي أو الاستجابة للحد من إنتشار فيروس “كورونا” المستجد كما أسست لذلك العديد من جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل في الحقل الحقوقي. إنطلاقا من أن القانون الدولي لحقوق الإنسان يكفل لكل شخص الحق في أعلى مستوى من الرعاية الصحية يمكن بلوغه، ويلزِم الدول باتخاذ تدابير لمنع تهديد الصحة العامة، وتقديم الرعاية الطبية لمن يحتاجها. كما يقر قانون حقوق الإنسان أيضا بأن القيود التي تفرض على بعض الحقوق، في سياق التهديدات الخطيرة للصحة العامة وحالات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الامة، يمكِن تبريرها عندما يكون لها أساس قانوني، وتكون ضرورية للغاية، بناء على أدلة علمية، ولا يكون تطبيقها تعسفيا ولا تمييزيا، ولفترة زمنية محددة، وتحترم كرامة الإنسان، وتكون قابلة للمراجعة ومتناسبة من أجل تحقيق الهدف المنشود.
من الواضح أنّ وباء كوفيد-19، بمدى اتساعه وخطورته، يرقى إلى مستوى تهديد للصحة العامة ويمكن أن يبرر فرض قيود على بعض الحقوق، مثل تلك التي تنجم عن فرض الحجر الصحي أو العزل الذي يحد من حرية التنقل. في الوقت نفسه، من شأن الاهتمام الدقيق بحقوق الإنسان )مثل عدم التمييز( ومبادئ حقوق الإنسان) مثل الشفافية واحترام الكرامة الإنسانية( أن تعزز الاستجابة الفعالة في خضم الاضطراب الحتمي الذي يحصل في أوقات الأزمات، والحدّ من الأضرار التي قد تنجم عن فرض التدابير الفضفاضة التي لا تُراعي المعايير المذكورة أعلاه.
3 ـ دور صحي : إنخرطت العديد من جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل في المجال الصحي في العديد من المبادرات التضامنية التي تروم تحسين وتجويد خدماتها المقدمة للمستفيدين كجمعيات (السكري ، القلب ، القصور الكلوي . السرطان …) كما حولت بعض الجمعيات مقراتها إلى عيادات تشتغل بشكل يومي ومنتظم وبكفاءة اكبر من السابق لتقديم الاستشارات الطبية والصحية عن بعد لتمكين المواطنين من البقاء في منازلهم، واستقبال الحالات المستعجلة والضرورية فقط، كما ساهمت بعض الجمعيات بالتبرع بتجهيزات ومعدات طبية لبعض المستشفيات العمومية.وانخرط البعض الآخر في مبادرات لتصنيع بعض التجهيزات والأدوات الطبية لسد الخصاص المسجل فيها .
4 ـ دور خيري تضامني : إن الشوارع والأزقة بمختلف المدن المغربية وإن خلت من المارة فهي تعج بمظاهر التطوع والتضامن حيث قامت العديد من جمعيات المجتمع المدني بمبادرات تهم توزيع المواد الغذائية و مساعدة الاسر الفقيرة، وجمع المساهمات والتبرعات المالية، وغيرها من المبادرات الأخرى التي تهم بالأساس تخفيف الآثار الاقتصادية لهاته الجائحة على المواطن.
كما تم تسجيل تبرع العديد من الجمعيات المهنية بمساهمات مالية لفائدة صندوق مكافحة آثار جائحة كورونا.
ختاما يمكن القول أن جمعيات ومنظمات المجتمع المدني تقوم بعمل أساسي في دعم جهود وقف انتشار الفيروس وضمان حصول الأشخاص المصابين بفيروس كورونا – أو أولئك الذين يعيشون في العزل أو في الحجر الصحي – على الحماية، والرعاية، والخدمات الاجتماعية اللازمة. لذلك ينبغي للحكومة توفير المناخ الملائم والدعم لهذه المنظمات والجمعيات لأداء هذا العمل، بما فيها تلك التي ترصد آثار تفشي هذا المرض ، و بالرغم من كل ما سبق يمكن أن نسجل في الأخير أن هذا المجهود، رغم أهميته القصوى، يبقى محتشما وضعيفا إذا قارنا بين عدد المبادرات على ارض الواقع و عدد الجمعيات على المستوى الوطني البالغ عددها 160 ألف جمعية حسب التصريحات الرسمية المعلن عليها من طرف الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، بحيث أن هذا الرقم يسائلنا جميعا للإجابة عن إشكالية الكم والكيف و قياس مدى فعالية جمعيات المجتمع المدني ببلادنا .
اكتشاف المزيد من DemocPress ديموك بريس
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.